بيت النبوة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث من دروس سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم ، ومع زوجة النبي الأولى السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها ، وها نحن ننتقل في هذا الدرس إلى بيت النبوَّة .
إنّ بيت النبوة شيءٌ كبير ، لأنه المثل الأعلى لكل بيت ، تقول أحياناً : هذا بيتٌ مسلم ، ترى الإسلام فيه واضحاً ، ترى الأدب ، ترى الحشمة ، ترى الاحترام ، ترى العبادات ، ترى الخير ، ترى التربية ، بيت مسلم ، فرقٌ كبير بين بيت المسلم وبيت غير المسلم ، أعلى هذه البيوت على الإطلاق بيت النبوة فهو قدوةٌ لكل بيت ، مثلٌ أعلى لكل بيت .
سكن النبي صلى الله عليه وسلَّم مع زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها في بيتها ، أحياناً امرأة صالحة عندها بيت يتزوجها رجل ، يأبى أن يسكن في بيتها ، إن كانت صالحةً وقدَّمت لك هذا البيت معونةً لك ، ما الذي يمنع أن تسكن عندها ؟ هذا النبي عليه الصلاة والسلام تزوَّج السيدة خديجة في بيتها فكانا أسعد زوجين ، وأكرم عروسين ، ونالت رضا الله عنها بشرفٍ كرَّمها الله به ، فكانت أم المؤمنين الأولى ، يقول الله عزَّ وجل :
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (6) ﴾
( سورة الأحزاب )
هذه زوجة النبي الأولى ، وهي أم المؤمنين الأولى ، أي أن أعلى مرتبة في المجتمع الإسلامي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ، هي في مقام أمٌ لكل المؤمنين :
﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (6) ﴾
( سورة الأحزاب )
عاش النبي معها في بيتها ، وكان بيتاً كسائر البيوت .
تذكرون أيها الأخوة أن سيدنا عمر حينما دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم وقد اضطجع على حصير ، وأثَّر في خدِّه الشريف فبكى عمر ، قال : يا عمر لماذا تبكي ؟ قال : " رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! " ، قال : يا عمر إنها نبوةٌ وليست ملكاً ، أنا لست ملكاً ، هذه النبوة .
(( يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بَلْ نبياً عبداً أجوع يوماً فأصبر وأشبع يوماً فأشكر )).
[مسند أبي حنيفة عن إبراهيم النخعي]
يبدو أن التقشُّف ، والفقر ، والضعف أقرب إلى العبودية ، ليس هناك ما يمنع أن تكون قوياً ، أو أن تكون غنياً ، ولكن القوة مزلقٌ خطير ، والغنى مزلقٌ خطير قلَّما ينجو منه إنسان ، بين كل مئة فقير تجد ثمانين عبيدٌ لله ، لكن بين كل مئة غني لا تجد عشرة عبيدٌ لله ، الغنى مزْلق ، والقوة مزلق ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عدَّ الغنى المُطغي أحد أكبر المصائب .
كان بيتاً كسائر البيوت ، لم يكن كما تُصوره بعض الكتب قصراً كبيراً ، إنما هو بيتٌ صغير ، كلكم سمع مني كثيراً أن بيت النبي صلى الله عليه وسلَّم في المدينة كان صغيراً إلى درجة أنه لا يستطيع أن يصلي وزوجته نائمة ، فكانت تنحرف قليلاً كي يسجد ، ما هذا البيت الصغير وهو سيد العالمين ؟ فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال : أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا .
أيها الأخوة قدَّمت السيدة خديجة للنبي نفسها ، كما قدَّمت له مالها ، وقال بعض المفسِّرين : هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (
﴾
( سورة الضحى )
هذه السيدة الشريفة الغنية نالت شرف أن تكون أم المؤمنين ، زوجة سيد المرسلين ، وأن تقدم له مالها ، وبيتها ، ونفسها .
أريد أن أعلِّق تعليقاً : إذا كان أخ طالب علم وأخ ثان يعمل ويقدِّم له ، هل تصدقون أن الذي يعمل ، ويقدم له لا يقل عن أجره ؟ الله عادل ، فأخ كريم قال لي : أنا طالب طب ، قلت له : من ينفق عليك ؟ قال : أخي يعمل بحرفة ، وهو الذي ينفق علي ، والله أيها الأخوة رأيت الثاني الذي ينفق على الأول بطلاً .
سمعت عن أحد الأشخاص له ابنٌ وابنة ـ هكذا سمعت ـ الابنة تعمل في الخياطة ، وهي التي أنفقت على أخيها حتى صار طبيباً ، كان من وصية الأب أن يقتسم الأخوان المال بالتساوي ، والله عزَّ وجل أكرم الطبيب بدخل كبير جداً ، فكان يعطي نصفه لأخته ، لأنها سبب نيله هذه الشهادة ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله .
إنسان يعمل ويقدم لطالب علم ، أنا أتصور أن له عند الله أجراً كبيراً ، أن هذا الذي يعمل ، ويقدِّم لطالب العلم لا يقل في الأجر عن طالب العلم .
في أحد الحفلات قام أحد الخطباء وألقى كلمة أعجبتني ، قال : إما أن تكون داعية وإما أن تتبنَّى داعية ، الآن في الشام آلاف طلاب العلم يأتون من أماكن بعيدة ؛ من الشمال ، من الشرق ، من الجنوب ، لو أن رجلاً تبنَّى طالب علم ؛ أنفق عليه ، اعتنى به ، يسَّر له منزلاً ، وعاد إلى بلده عالِماً كبيراً ، داعيةً ، خطيباً ، هل تصدق أن هذا الذي اعتنى به في الشام ، وقدم له المسكن ؛ الطعام والشراب والكساء له الأجر نفسه لهذا الداعية ، إن لم تكن داعيةً فتبنَّ داعياً ، إن لم تكن عالِماً فكن في خدمة عالِمٍ ، في خدمة دعوةٍ ، لا أٌقول في خدمة عالِم بالذات ، كن في خدمة دعوة .
مثلاً هذا المسجد ، هؤلاء الذين بنوه ، وزيَّنوه ، وكسوه ، وفرشوه ، أنتم تأتون إلى مكان لطيف ، جميل ، مهيَّأ ، منظَّف ، كل منا يتوهَّم أن الجنة له ، كل من ساهم في هذا المسجد له مثل أجر الذي تكلف ، الله عزَّ وجل كريم ، هذا بنى ، هذا خطب ، هذا درَّس ، هذا أدار المشروع ، هذا هيَّأ ، عند الناس قد تغيب بعض الحقوق ، أما عند الله سبحانه وتعالى لا يضيع حق أبداً .
ماذا فعلت هذه السيدة ؟ قدَّمت بيتها ومالها ونفسها للنبي ، كم تتصوَّر أجرها ؟ هيَّأت له جواً ، أحياناً تجد كتاب يقول الكاتب في إهدائه : إلى التي هيَّأت لي جو التأليف ، إلى التي حَبَتْنِي بعطفها ، إلى التي هيأت لي كل وسائل النجاح ، إلى زوجتي ، يرى أن هذا المؤلَّف الذي ألَّفه مدينٌ به لزوجته ، ماذا فعلت زوجته ؟ طبخت ، ونظَّفت ، وهيَّأت له الجو الهادئ ، وأطعمت الصغار ، وأبعدتهم عن أبيهم لئلا يُشَوَّش عليه ، يقول لك هذا المؤلَّف لولا زوجتي ما ألَّفته ، أي إنسان قدَّم معونة ؛ هذا نظف المسجد ، هذا هيَّأ الحاجات ، هذا هيأ الكهرباء ، هذا صلَّح أجهزة التدفئة ، كل من ساهم في دعوة له أجرٌ كبير ، نحن أسرة أخواننا الكرام ، افهم هذا المفهوم ، نحن أسرة كل واحد له دوره ، لا أحد أفضل من أحد .
امرأة غنية ، النبي عليه الصلاة والسلام في أمس الحاجة إليها ، هو يدعو إلى الله في زمنٍ عصيب ، هيأت له البيت ، هيأت له المال ، هيأت له نفسها ، هيأت له سكناً ، كانت مِعْواناً له ، كانت مسليةً له ، مصبِّرةً ، لا يعلم إلا الله الأجر الذي نالته بهذا العمل ، لا تظن أن أشخاصاً بالواجهة ، ثمة أشخاص هم جنود مجهولون ، تجده جامعاً ، إنسان في الواجهة يتكلَّم ؛ ولكن معه أناس قدَّموا مساعدات كبيرة جداً ، لا أحد يعرفهم ، لكن الله يعرفهم .
والله أيها الأخوة ، أنا تلوت على مسامعكم هذا الخبر كثيراً ، عندما جاء رسول من نهاوند يخبر سيدنا عمر بما جرى في هذه المعركة ، فقال له : " مات خلقٌ كثير " ، قال له : " من هم ؟ " ، قال له : " أنت لا تعرفهم " ، فبكى عمر وقال : " ما ضرَّني أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم " ، أي ومن أنا ؟
إن أخلصت لله وكنت بخدمة الدعوة ، الدعوة تحتاج إليك ؛ هذا نظف المكتبة ، وهذا نظم الدروس ، هذا ألَّف كتاباً ، هذا أعان الفقراء ، هذا لبَّى خدمة الأخوة الكرام ، هذا توسَّط حتى وظَّف هذا الأخ ، هذا هيَّأ زواج أخ ، هذا فرش المسجد ، هذا أنار الكهرباء ، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد فرآه متألِّقاً قال : " من نوَّره ؟ " ، قالوا : تميم الداري ، فقال له : " نوَّر الله قلبك كما نوَّرت المسجد " ، أثنى عليه النبي ثناءً كبيراً .
ملخَّص هذه التعليقات : إن لم تكن في قمة الدعوة فكن أحد أعوانها ، ليكن لك مساهمة بشكل أو بآخر .
ثمة إخوة ـ أنا والله ممتن لهم من أعماقي ـ ما من مشكلة صحية إلا ويتولونها بالرعاية ، والعملية ، والمستشفى ، والطبيب ، هذا يد يمنى ، هذا بالطب ، هذا بالهندسة ، قضية بالمسجد ، مشكلة ، تهوية ، إضاءة ، تحسين ، توسيع متمكن ، هذا مهندس وضع خبرته في سبيل هذه الدعوة ، هذا طبيب وضع علمه في سبيل هذه الدعوة ، هذا محام وضع خبرته في سبيل هذه الدعوة ، هذا مؤلِّف وضع علمه في سبيل هذه الدعوة ، ليكن لك مساهمة في هذه الدعوة ، وأنت عندئذٍ جنديٌ عند الله ، عُرِفت أو لم تُعرف سيَّان ، نوَّهوا بك أو لم ينوهوا ، أشاروا إليك أو لم يشيروا ، لك مساهمة .
في كثير من الأحيان أنا أعجب بأخ قال لي : أنا أعمل بالكهرباء أي خدمة تريدها أنا جاهز لها ، والله شيء جميل ! أنا عندي مَحافظ أحب أن أقدِّمها لطلاب المعهد ، بارك الله بك ، أنا عندي أحذية ، أنا عندي ملابس صوفية ، إخوة كثر جاؤوا بأشياء كثيرة جداً لطلاب المعهد ، طالب لبس ثوباً ، لبس حذاء ، أخذ محفظة ، ساعة ، إنسان نقلهم بالسيارة من مكان إلى مكان ، إنسان اعتنى بهم في الطعام والشراب ، لا بد لك أن تساهم إن كنت مخلصاً ، عُرفت أو لم تُعرف ، نوَّهوا بك أو لم ينوهوا ، أشاروا أو لم يشيروا ، من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس به ، أنا هذه وقفتي .
قدَّمت رضي الله عنها للنبي نفسها ، كما قدَّمت له مالها ، وتفانت في طاعته وخدمته ، وتهيئة كل أسباب السعادة والراحة له ، فكانت بحقٍ الزوجة المثاليَّة الكريمة الصالحة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله )).
[كنز العمال عن أسماء بنت يزيد الأنصاري]
كيف إذا كان هذا الزوج نبياً ؟ كيف إذا كان هذا الزوج رسولاً ؟ كيف إذا كان هذا الزوج سيِّد الأنبياء والمرسلين ؛ بل سيد ولد آدم ؟ هنيئاً لها على هذا المقام ، والحقيقة أن الإنسان يُغبَط إذا كان له عمل في الدعوة ، بخدمة دعوة إلى الله خدمة خالصة .
أخ من أخواننا الكرام من الصين ، يأخذ بعض الدروس ويترجمها إلى اللغة الصينيَّة ، والله أنا قرأت مقالةً منها ، مستحيل أن أفهم حرفاً ، كل حرف صيني كلمة ، قال لي : هذه مقالتك ، مجلة كبيرة ، قال لي : نحتاج إلى غلاف ، لأن هذه المجلَّة تُرسل إلى الصين ، والله أكبرتهم ، يأخذون بعض الخطب أو بعض المقالات فيترجمونها إلى اللغة الصينيَّة ، ثم يطبعونها ، وهم بحاجة إلى غلاف ، أخ كريم من روَّاد المسجد يعمل في الطباعة ، قلنا له : نريد غلافاً ، قال : حاضر ، جاء بأجمل غلاف فيه خمسة ألوان ، وقال لي : هديَّة ، ساهم ، فحرفته ساهمت في الدعوة .
لا يوجد مصلحة ولا حرفة إلا ولها مساهم في الدعوة ، أستاذ فيزياء ، فهناك أخ بحاجة لعدد من الدروس ، وهو فقير ، فقال لي : أنا جاهز ، أستاذ إنكليزي ، أستاذ عربي ، أستاذ رياضيات ، هذا بالتعليم ، بالهندسة في مهندسين ؛ توسعة ، تزيين ، حل مشكلات ، مرافق عامَّة ، حُلَّت كل مشاكل المسجد ، أحد الأخوة المهندسين قدَّم كل علمه للمسجد ، أخ طبيب قدَّم كل خبرته للمسجد ، إذا ما كنت داعية كن في خدمة دعوة ، هذه كل القصة ، عُرفت أو لم تعرف ، هذا الذي أعلِّق عليه من قول المؤلِّف : " قدَّمت رضي الله عنها للنبي نفسها ، كما قدمت له مالها ، وتفانت في طاعته وخدمته " .
بصراحة الزوجة أحياناً تتمادى مع زوجها ، السبب هو يعيش معها في بيتٍ واحد وأزهد الناس في العالم أهله وأولاده ، لكن مقام النبي ، زوجته تفانت في طاعته وخدمته ، كل إنسان له مكانة ، ولكن أحياناً تُرفع الكلفة بينه وبين زوجته ، لكن مقام النبي ينبغي أن يكون عالياً جداً ، فمع أنه زوج كانت تتفانى في طاعته وخدمته ، فالآن تجد زوجة عمرها خمس عشرة سنة ، وزوجها عمره ثلاثة وثلاثون عاماً ، تقول له : سعيد ، تناديه باسمه وتتطاول ، والفارق بينهما في السن كبير ، أما زوجات النبي فيخاطبنه بالرسالة : يا رسول الله ، في البيت طبعاً بين الزوجة والزوجة هناك علاقة حميمة ، ومع ذلك مكانته عالية .
والله قال لي أحد الأشخاص : جلست زوجتي على الأريكة ، وهو جالس على الأرض ، وهذا الجهاز الرائي اللعين كان مفتوحاً ، قال لي : ركلتني برجلها أنْ غيِّر القناة ، هذه زوجة ؟ طبعاً طلَّقها .
كانت رضي الله عنها تتولَّى خدمة النبي بنفسها ، أحياناً تجد زوجة تقول لولدها والدك يريد كأس ماء ، اسقِه ، وهي جالسة مرتاحة ، والدك يريد كذا أحضره له ، تعطي أوامر فقط ، لكن أن تقوم الزوجة وتخدم زوجها بنفسها فهذه أعلى درجة من الاحترام .
كانت رضي الله عنها تتولى خدمة النبي بنفسها ، ولا تكلِّف أحداً غيرها بذلك ، معنى هذا أنها تعرف مقامه ، مع أن أكثر من يعمل في الحقل الديني أجهل الناس بمقامه أهله وأولاده ، كأن هناك تقصيراً في حقه ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فزوجته تعرف مقامه العالي .
(( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ دققوا الآن قد يقشعر جلدكم ـ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ )).
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
هذا الحديث في صحيح البخاري ، تلقَّت سلاماً من الله ، والذي تسمعونه كثيراً أن جبريل عليه السلام ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال : " يا محمد أقرئ صاحبك من الله السلام وبلِّغه إن الله راضٍ عنه ، فهل هو راضٍ عن الله ."
أنت عندما تخدم عباد الله عزَّ وجل ، تتفانى في خدمة العباد ، الله يحبك ، لأن الله وفي ، والله شاكر ، شكور ، فعندما تخدم أنت عباده ، ترحمهم ، تعطف عليهم ، تيسِّر لهم أمورهم ، اسمعوا هذا الحديث :
(( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ )).
[مسلم عن أبي هريرة]
إنسان مقطوع ، إنسان مريض ، إنسان بحاجة إلى مساعدة ، عليه دين ، يسَّرت له أموره ، تنام ملء العين لأن الله راضٍ عنك :
(( إذا أراد الله بعبد خيراً صير حوائج الناس إليه )).
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
إذا أحبه .
(( إن من الناس أناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس أناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه )).
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
يقول ابن حَجَر رحمه الله تعالى : " كانت السيدة خديجة حريصةً على رضا النبي بكل ممكن " ، والله مرَّة أحد أصدقائي توفيت والدته ، فذهبنا للتعزية ، والده بالثمانين بكى بكاءً مراً ، خففنا عنه مصابه في نهاية التعزية ، قال : والله قُرابة خمسين عاماً وأنا بصحبتها وما نمت ليلةً واحدةً وأنا غاضبٌ عليها ، ولا ليلة ، هذه زوجة ، وزوج آخر يقول لك : ولا ليلة كنت مرتاحاً ، فهذه زوجة ، وهذه زوجة ؟! وشتان بين الزوجتين :
(( إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ )).
[أحمد عن عبد الرحمن بن عوف]
أسوق هذا الكلام للأخوات المؤمنات : والله الزوجة إذا كانت زوجة مثاليَّة ، أحسنت تبعُّل زوجها وأولادها ، والله قد تجد لها مقاماً عند الله يفوق مئة ألف رجل ، والله ولا أبالغ ، قال :
(( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم )).
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
امرأة تعتني بأولادها :
(( أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة )).
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
قعدت على بيت ، عند الجيران ، في استقبال ، الأولاد بالطريق بلا أكل ، شاردين ، ما كتبوا وظائفهم ، بيت خربٌ ، من بيت إلى بيت :
(( أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة )).
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
تربية الأولاد عمل عظيم من أعظم القربات إلى الله عزَّ وجل ، أنا أعرف بيوت هَمُّ المرأة أولادها وزوجها ؛ طعامهم ، وشرابهم ، ودراستهم ، وغرفتهم ، ونظافتهم ، ومستقبلهم ، فامرأة أنجبت خمسة أولاد ربتهم تربية عالية ، ثم توفَّاها الله ، إلى الجنة فوراً ، الأمومة الكاملة تكفي لدخول الجنة فقط ، ما فعلت شيئاً إلا أنها ربَّت أولادها .
طبعاً :
(( انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء ـ يخاطب امرأةً مؤمنةً، مسلمةً ، مصليةً ، صائمةً ـ أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله )).
[كنز العمال عن أسماء بنت يزيد الأنصاري]
قال : ولم يصدر منها ما يغضبه قط ـ إطلاقاً ـ أنا كلمة أتأثر بها تأثُّراً كبيراً ، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم ، يتحدث عن سيدنا الصديق يقول : " ما ساءني قط ، ولا بكلمة ، ولا بموقف " ،
(( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر )).
[من مختصر تفسير ابن كثير ]
ما ساءني قط أعطاني ماله وزوجني ابنته فاعرفوا له ذلك ،
(( ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر )).
[كنز العمال عن أبي الدرداء]
لم يصدر منها ما يغضبه قط ؛ لا كلمة ولا نظرة ، أحياناً يزورك أحدهم ، يقول لك : ما تكلَّمت بشيء ، أحياناً النظرة القاسية ، النظرة الحادة هذه إساءة ، هناك ابتسامة ، وأدب ، وبشاشة ، وتهذيب ، فزوجة متعبة جداً ، سحقت زوجها ؛ كل يوم مشكلة ، كل يوم قضية ، قال لها : أريحيني يوماً فقط ، اتفقوا أن تزعجه يوماً ، وتريحه يوماً ، ويوم الراحة تقول له : غداً سأزعجك ، غداً سأزعجك ، ما ارتاح يوماً منها .
أشار ابن حجر رضي الله تعالى عنه إلى ما حدث عندما سألت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يوسِّع عليهن بالنفقة ، طالبنه ببعض الرفاهية ، ببعض النفقة الزائدة ؛ بطعام أطيب ، ببيت أوسع ، فغضب عليه الصلاة والسلام ، وهذا حينما قال تعالى :
﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) ﴾
( سورة الأحزاب )
وقال :
﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ﴾
( سورة الأحزاب )
وقال :
﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) ﴾
( سورة الأحزاب )
لمَّا سألت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يوسِّع عليهنَّ بالنفقة ، غضب ، واعتزلهنَّ شهراً في غرفةٍ عالية ، حتى أنزل الله تعالى آيتي التخيير :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ﴾
( سورة الأحزاب )
يروى أن السيدة خديجة لم تسأل النبي هذا إطلاقاً ، راضية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أعظم النساء بركةً أقلَّهن مهراً )).
[أحاديث الإحياء عن السيدة عائشة]
(( أعظم النساء بركةً أقلَّهن مؤونةً )).
[الجامع الصغير عن السيدة عائشة]
طلباتها خفيفة ، قال لي مهندس : دخلت زوجة صاحب البيت ـ وقد كَلَّف الحمام ثلاثمئة وخمسين ألفاً سيراميك ـ فقالت له : كسِّره كله ، ليس جميلاً ، قال لي : كسَّرناه .
ما علاقة أن سيدنا جبريل بشَّرها ببيتٍ في الجنة ؟ قال : لأنها كانت سيدة بيتٍ أولى في الدنيا ؛ بيت منظَّم ، نظيف ، فيه خدمات عالية ، فيه راحة للزوج ، فيه تصبير ، فيه عناية ، لأنها كانت سيدة بيتٍ مثالية في الدنيا فبشَّرها جبريل عليه السلام ببيتٍ في الجنة ، إذاً حينما بشرها جبريل عليه السلام ببيتٍ في الجنة لا نصب فيه ولا صخب ، لأنها كانت في الدنيا سيدة بيتٍ مثالي لا نصب فيه ولا صخب ، وفَّرت الراحة لرسول الله .
دعاها إلى الإيمان فأجابت عفواً ، فكانت أول امرأةٍ أسلمت ، ولم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعلُ الزوج إذا تغضَّبت عليه حليلته ـ فأكثر الأزواج ينشأ خلاف ، فيغضب منها ، ويرفع صوته ، ويتألَّم ، ويخرج من البيت غاضباً ، قال : لم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعل إذا تغضَّبت عليه حليلته ، واحد أراد أن ينصح ، أو أن يفصح عن طباعه لمخطوبته فقال : إن في خُلُقي سوءاً ، قالت له مخطوبته : إنّ أسوأ خلقاً منك من أحوجك لسوء الخُلُق ـ ولا أن ينصب ، بل أزالت عنه كل نصب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوَّنت عليه كل مكروه ، وأراحته بمالها من كل كدٍ ونصب .
عبارات دقيقة أعيدها على مسامعكم ، قال السهيمي رحمه الله : دعاها إلى الإيمان فأجابته عفواً ، ولم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعل الزوج إذا تغضَّبت عليه حليلته ، ولا أن ينصب بل أزالت عنه كل نصب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوَّنت عليه كل مكروه ، وأراحته بمالها من كل كدٍ ونصب ، امتلأ قلبها بحب النبي وتقديره واحترامه ، وهي ترجو أن يكون له شأنٌ كبير .
والله وردت قصة في فتح الباري سأرويها على مسامعكم :
(( كان النبي صلى الله عليه وسلَّم عند أبي طالب ، فاستأذنه أن يتوجَّه إلى خديجة ، فأذن له ، وبعث بعده جاريةً يقال لها نبعة ، فقال لها : انظري ما تقول له خديجة ـ وقت الخطبة ـ فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ، ثم قالت : " بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا لشيء ، ولكن أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيُبعث ، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي ، وادع الإله الذي يبعثك لي " ، فقال لها : والله لئن كنت أنا هو فقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً)) .
[الفاكهي عن أنس]
أي أنها رغبت أن تكون زوجة النبي لما ألهمها الله أنه سيكون له شأنٌ كبير ، وقالت : " إن كنت كذلك فلا تنسَ أن تسأل الله لي أن أكون معك " .
النبي عليه الصلاة والسلام ـ دققوا في هذه العبارة ـ عرف للسيدة خديجة أم المؤمنين حقها ومنزلتها ، أحياناً إنسان يكون فقير يتزوج ، هذه الزوجة تتحمَّل معه ألوان الفقر ، فإذا اغتنى أراد أن يغيِّرها ، نسي الماضي .
عرف النبي صلى الله عليه وسلَّم للسيدة خديجة أم المؤمنين حقَّها ومنزلتها ، وبادلها حباً بحب ، ووفاءً بوفاء ، فلم يتزوج غيرها في حياتها إكراماً لها ، وصان قلبها من الغيرة عليه ، وعاش معها وحدها أكثر مما عاش مع غيرها ، فقد عاش صلى الله عليه وسلَّم بعد أن تزوج السيدة خديجة ثمانيةً وثلاثين عاماً ، انفردت خديجة منها بخمسةٍ وعشرين ، عاش ثمانيةً وثلاثين عاماً ، منها خمسة وعشرون مع خديجة وحدها ، هذا هو الوفاء ، إذا تزوج الرجل امرأة ، وماتت ، وتزوج الثانية ، يقول لك : خلصنا منها ، وأراحنا الله منها ، ليس ثمة وفاء ، كان عليه الصلاة والسلام أوفى الأوفياء ، وبقي على محبتها ، والوفاء لها إلى أن توفَّاه الله تعالى ، وقد صرَّح بحبه لها للسيدة عائشة رضي الله عنها ، وقال لها :
(( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا )).
[مسلم عن السيدة عائشة ]
ما قولك ؟ رزقت ، معنى هذا أن الإنسان إذا كان يحب زوجته هذه نعمة الله ، هذا رزق من الله ، أحياناً يكرهها ، جالسة في وجهه طوال النهار ، لا يحبها ، شيء صعب هذه التي يسكن معها طوال حياته ولا يحبها ، النبي ما عدَّ أنه أحسن اختيارها ، بل :
(( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا )).
[مسلم عن السيدة عائشة ]
بصراحة أيها الأخوة إذا غضَّ الإنسان بصره عن محارم الله يرزق حب زوجته ، اطمئنوا ، إذا غضَّ بصره عن محارم الله يرزق حب زوجته :
(( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا )).
[مسلم عن السيدة عائشة ]
قال : فحبه صلى الله عليه وسلَّم للسيدة خديجة فضيلةٌ تفضَّل الله تعالى بها عليه صلى الله عليه وسلَّم .
إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم نتابع الحديث عن هذه السيدة الأولى التي كانت أول زوجات النبي ، وكانت أحبَّ نسائه إليه ، وقد عرف قدرها وحبها .