أوهام يبديها معارضو المقاطعة
وإذا كانت الأدلة الشرعية متضافرة على جواز، إن لم نقل على استحباب، المقاطعة الاقتصادية للمعتدين المتطاولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومًا عميت أبصارهم رأوا أن المقاطعة غير جائزة وساقوا في ذلك أوهام، وليست شبهات، لم تنبت إلا في عقولهم.
فمن ذلك من يزعم أَنَّ المقاطعة ستقطع الحوار مع الغربيين:
وهذه كذبةٌ بلقاء، وحيلةٌ بلهاء، فإنَّ الله عز وجل لم يَأْذَنْ بالحوار مع الكفار إلا ببنائه على أصلَيْنِ اثنَيْنِ ، هما:
دعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
بيان بُطْلان دينهم وفساده، وأَنْ اللهَ لا يقبله منهم، ولا يقبل غيرَ الإسلام.
لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران 64].
وكانتْ حوارات النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [المائدة 68]، ولو أقاموهما لآمنوا بالنبي وأسلموا ، كما قال عيسى عليه السلام لهم : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف 6].
وقال : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران20].
وهذه الحواراتُ المزعومةُ ليست مبنيَّةٌ على هذَيْنِ الأصلَيْنِ، ولكنها غطاء لهدم الدين، وموالاة الكفار والمشركين.
ومن ذلك من يزعم أن المقاطعة قد تلحق أضرارًا بمصالح المسلمين:
وحقيقة الأمر، إن المقاطعة إذا تمت بضوابطها لنجحت ولم تلحق أضرارًا بأحد إلا بمن آثر الدنيا على الآخرة، وقدم شهوة بطنه على نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهب أن المقاطعة ألحقت ببعض فئات الأمة ضررًا وأضرارًا، فنقول لهم احتسبوا الأجر من عند الله وما ترك أحد شيئًا لله إلا عوضه الله خيرًا، فالواجب على المسلم إن وقع ضرر وهو أمر غير مسلم احتساب الأجر والصبر، فإنَّ الجنة حفت بالمكاره، وحفت جهنم برغبات النفوس وأهوائها.
وإن حصل ضرر فإن حفظ جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته أهم من كل الأضرار، لقد رُفع للإمام مالك بن أنس رجل يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك رحمه الله: ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها.
ومع هذ؛ م يحصل بحمد الله ضرر، بل حصل مِنْ نصرة الدِّين وخُذْلان الكفار والمنافقين ما تَقَرُّ به أعين المؤمنين، وسارت به الركبان.
3- وهناك من يزعم أن المقاطعة تحريم لما أحل الله عزوجل:
وهذا من أغرب الأوهام التي أبداها رافضو المقاطعة، فمن قال إن المقاطعة فيها تحريم لما أحل الله من منتجات وأطعمة، إن الداعين إلى المقاطعة يقدمون بدائل لهذه المواد متوفرة في أسواق المسلمين، ولا يدعو أحد منهم إلى مقاطعة أصل هذه المواد، بل إن الدعوة منصبة فقط على مقاطعة المواد المنتجة في الدول التي اعتدت أو قبلت بالتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال أن في المقاطعة تحريم لما أحل الله عزوجل.
ضوابط في المقاطعة:
غير أن المقاطعة الاقتصادية حتى تكون ناجحة وقوية، يجب لها من عدة ضوابط نوضحها فيما يلي:
المقاطعة وسيلة وليست غاية:
ليست المقاطعة الاقتصادية غاية في حد ذاتها، ولكنها وسيلة لهدف عجز المسلمون عن تحقيقه بالسيف والسنان فلجأوا إلى هذا السلاح الهام، فالمقاطعة ليس لها غاية تنتهي إليها إلا بمحاسبة تلك المتطاولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاسبة كُلّ ذي صلة بهذه الجريمة، ومعاقبتهم عقوبة حاسمة رادعة.
يقول الشيخ عبد العزيز الراجحي – حفظه الله -: "أَمَّا ما ينادي به البعض من أن تكون غايةُ المقاطعة اعتذارَ الحكومة الدانماركية أو الصحيفة: فليس من الحق ولا العقل في شيء، وحكمٌ لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الجناية حَقٌّ عظيم لله عزَّ وجلَّ، ليس لأحد أَنْ يتنازل عنه، أو يُعلن المسامحة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أَنْ يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته، وليس للأمة أَنْ يعفوا عن ذلك)[1]، ثم قال رحمه الله: ( ومما يوضح ذلك: أنَّ سَبَّ النبيصلى الله عليه وسلم تعلَّق به عدة حقوق: حَقّ الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله صلى الله عليه وسلم، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة.
ومن حيث طعن في ألوهيته، فإنَّ الطعن في الرسول طَعْنٌ في الُمرْسِل، وتكذيبَه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى، وإنكارٌ لكلامه وأمرِه وخبرِه وكثيرٍ من صفاته.
وتعلَّق به حَقُّ جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإنَّ جميع المؤمنين مؤمنون به، خصوصا أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسَّبُّ له أعظم عندهم من سَبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسَبِّ جميعهم، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين، وتعلَّق به حَقُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه)[2].
فلا حَقَّ لأحدٍ قط أَنْ يتنازل عن حَقٍّ ليس له ، ومَنْ تنازل عن شيء من ذلك ، فإنما تنازل عن حَقِّ غيره ، فلا يَصِحُّ تنازلُه ولا يجوز) أهـ من بيان للشيخ عبد العزيز الراجحي بشأن الجريمة الدانماركية.
وكما اتضح من قصة ثمامة بن أثال رضى الله عنه، فقد كان الهدف من المقاطعة الاقتصادية على أهل مكة هو إعلام قريش بأن الكلمة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تحقق هذا الهدف فرُفعت المقاطعة.
ومع إيضاح أن المقاطعة وسيلة وليست غاية، فعلى الدعاة والعلماء وقادة الأمة من تحديد أهداف المقاطعة حتى لا يخدعهم البعض بأن المقاطعة تحققت باعتذار لا قيمة له.
فتثبتوا، التأكد من قوائم المقاطعة:
ومن أهم ضوابط المقاطعة التثبت والتبين من أسماء المنتجات والشركات المندرجة في هذه المقاطعة، فيجب على المسلم أن يدرس السلع والخدمات التي تنتجها الدولة المقاطَعة، ويجب عليه التيقن من أنها سلعة مقدمة من دولة معتدية ظالمة، وهذا في زماننا ميسر، حيث لكل سلعة دولة للمنشأ، أين صنعت هذه السلعة، وإن كان يحدث في بعض الأحيان تحايل، ولكن نسبته قليلة، ويوجد في الدول العربية والإسلامية مراكز معلومات نستطيع أن نعرف منها الدولة التي تنتج السلعة أو تقدم الخدمة، وأسماء المساهمين في الشركات وجنسياتهم، ومعلومات كثيرة عنهم.
ويجب ألا تكون قوائم المقاطعة عشوائية، حتى لا نصيب قومًا بجهالة، بل يجب أن تكون هادفة، ومخططة، ومنظمة، وموجهة، حتى تكون أكثر فعالية، تحقق أكبر خسارة ممكنة لاقتصاد العدو، وتخفيف الخسائر من على الوطن، سواء كان عربيا أو إسلاميًا.
لذلك يجب على المسلم التثبت والتريث فلا يُقدِم على أمر حتى يتبينه، ويتوثق منه، ومن ذلك:
التحقق من نسبة المنتج إلى أولئك كي لا نقع في شيء من الظلم لأحد من المسلمين أو غيرهم ، وهنا قد تدخل المنافسات بين الشركات ويبدأ تصفية الحسابات فنُصيب قوما بجهالة.
قد يكون لهم شراكة في بعض المنتجات ثم زالت وتحول الأمر إلى غيرهم وهو أمر لا بد من معرفته لئلا نُلحق بأحد ضررا من هذه الجهة.
ربما كان التصنيع برمته في بلاد المسلمين إلا أن المصنع حصل على ترخيص من شركة هناك فمثل هذا تكون المقاطعة فيه عقابا لصاحب المصنع وهذا غير مراد.
المقاطعة موقف شرعي، لا يتوقف على النتائج:
ومن أهم الضوابط التي يجب الانتباه لها عند الحديث عن المقاطعة، هي أن المقاطعة تصدر عن موقف شرعي، أوضحناه فيما سبق، وتهدف إلى تحقيق الإعذار لله عزوجل، فهي بذلك لا تعتمد على النتائج التي تحققها، فلا يهم قدر النتائج المتحققة بقدر ما يهم الالتزام بهذا الموقف الشرعي، فلا ينبغي تخذيل الناس وتوهين عزائمهم بدعوى عدم جدوى المقاطعة، فالمقاطعة لا يُنظر إليها بما تحققه من خسائر مادية للعدو، ولكن يُنظر إليها على أنها موقف مع النفس، وموقف مع الله، وموقف لمؤازرة إخواننا، فقيمتها المعنوية لا تُقوّم بمال.
كما أن المقاطعة ليست من الأمور التي تظهر ثمرتها بشكل سريع، فمن الخطأ استعجال النتائج, والظن أن مقاطعة هذه الإمبراطوريات العريضة من رؤوس الأموال والشركات الضخمة سيؤدي إلى انهيارها في ظرف شهر أو شهرين, أو السنة والسنتين ، وهو ظن خاطئ لا يعرف الأناة والتريث , وموغل في التفاؤل إلى حد غير مقبول.
والحق في هذا الصدد أنّ الثمار اليانعة قد لا يتأتى قطفها إلا بعد سنوات من القطيعة الجادة, وربما يتطلب الأمر تعاقب أكثر من جيل, لكنها حتمية الوقوع بإذن الله تعالى، وقد يظهر ثمارها الآن، وقد بدأت تظهر آثار المقاطعة جلية على ألسنة القوم وفي اقتصادهم، غير أنه وإن لم تظهر هذه النتائج فماذا يضيرنا أن يتحقق المقصود على أيدينا, أو على أيدي الجيل الذي يلينا, وأجرنا وأجرهم على الله عزوجل.
كما أنه من الخطأ تخذيل الناس بدعوى أن هذه الصحوة الإسلامية أو المقاطعة لم تقع مثلاً حينما أهينت أوراق المصحف، إلى غير ذلك مما قد يُقال، فإن الضعف والتفريط في جانب لا يعني أن نفرط في الجوانب الأخرى ، فإذا حصل تقصير في الانتصار للقرآن فليس معنى ذلك أن نخذل الناس عن الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
المقاطعة والمصالح والمفاسد:
من الضوابط الهامة لموضوع المقاطعة، الانتباه إلى توفير بدائل لكل منتج يتم مقاطعته، وإلا فإنه إذا لم يوجد بديل لهذا المنتج وثبتت ضرورته فلا مجال لمقاطعته بما فيه من إضرار بالمسلمين، ومن ذلك أجهزة الحاسب وبرامج الحاسوب، غير أن ذلك يجب أن يكون دافعًا للمسلمين أن ينتجوا ويتخلوا عن التكاسل، فلقد سخر السفير الدانماركي لدى الجزائر من المقاطعة الإسلامية بزعمه أن المسلمين "لا ينتجون فكيف يقاطعون".
ويمكن النظر للمقاطعة من عدة جوانب:
الجانب الأول: نوع البضاعة المشتراة، ومدى حاجتنا إليها.
الجانب الثاني: مدى توفر السلعة نفسها، وفق تقنياتها وقدراتها وقوتها في الاستخدام.
الجانب الثالث: سعر السلعة ومدى تناسبه مع خدمتها.
وعليه فإن مثل أجهزة الكمبيوتر وغيرها من الأجهزة والتقنيات العلمية والطبية التي يفتقر إليها المسلمون –وهم عالة على الغرب فيها- من الأهمية بمكان، غير أنه يجب دعم الاقتصاد المسلم إن وجد إلي ذلك سبيل بالتمهيد لإنتاج مثل هذه السلع والأجهزة، أو دعم الدول التي تقوم بتصنيع أجهزة الحاسب مثل ماليزيا وغيرها من الدول المسلمة.
بث الوعي وتوحيد الجهود:
ينبغي لإنجاح المقاطعة بث الوعي في المجتمع؛ بكثرة الطرح والطرق لهذا الموضوع الهام، من خلال الجلسات العائلية، والجلسات الشبابية، والمجالس العلمية, مع الحرص التام على سلامة الصدور, وألا يكون وجود بعض الأصوات المخالفة أو المخذلة سبباً في شيوع اليأس من النجاح, أو إعاقة المسيرة فيجب أن نتوقع كل شيء.
ولا ينبغي أن ننسى طبيعة مجتمعاتنا المترفة, ونمط العيش السائد لدى الأكثرية, والذين تعودوا أن يجدوا كل شيء متوفراً- بحمد الله- فأصابهم ذلك بالخمول والدعة والإخلاد إلى ملذات الدنيا, حتى لم يعودوا قادرين على الزهد ببعض الكماليات، إلى بدائل ربما تفوقها ترفاً وجودة، والله المستعان.
ومما يساهم في نجاح فكرة المقاطعة, تشجيع التجار والمحلات التجارية التي لا تبيع المنتجات المزمع مقاطعتها والتواصي بذلك في كل مكان، ومخاطبة التجار والمستوردين كي يحدوا من متاجرتهم ببضائع الأمريكان فالكلمة الصادقة ، والموعظة الحسنة تفعل الأعاجيب.
--------------------------------------------------------------------------------
1- الصارم المسلول 205.
1- الصارم المسلول 250.