من أسماء الله الحسنى المُبِين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من أسماء الله الحسنى : ( المُبِين ) :
1 – ورودُ اسم ( المبين ) في القرآن الكريم :
مع اسم من أسماء الله الحسنى ، وهو اسم ( المبين ) ، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في آية واحدة ، قال تعالى :
? وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ?
( سورة النور ) .
2 – ورودُ اسم ( المبين ) معرَّفًا بـ ( أل ) إشارة إلى الوصفية :
ورد هذا الاسم في القرآن الكريم معرفا بـ ( أل ) ، فلان اسمه راشد ، راشد اسم علم ، أما إذا عرفت الاسم لقلت : جاء الراشد ، أنت تريد أن تؤكد اتصاف هذا الإنسان بالرشد ، فحين يعرّف اسم العلم يقصد منه التعريف ، ودقة اتصاف صاحب الاسم بصفته ، إذا قلت : جاء راشد ، قد يكون جاء رجل اسمه راشد ، لكنه غير راشد ، كأن تقول : فلان سعيد ، اسمه سعيد ، وهو من أشقى الناس ، فلان كامل ، وفيه كمية نقص لا تعد ولا تحصى .
لذلك إذا عُرِّف الاسم العلم بـ ( أل ) أُشير إلى اتصاف صاحبه بهذه الصفة ، فاسم الله تعالى ( المبين ) ورد معرَّفا بـ : أل :
? وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ?
شيء آخر أيها الأخوة ، نحن نعلم في اللغة أن الكلمات معارف ونكرات ، المعرفة ما دلت على معين ، والنكرة ما دلت على غير معين ، تقول : عاصمة ، فهي غير معين ، نكرة ، أما دمشق فمعرفة .
قال بعض النحاة :
إن المعارف سبعة في قولنا كَمُل أنا صالح من ذا الفتى ابني يا رجل
الضمير معرفة ، اسم العلم معرفة ، اسم الإشارة معرفه ، اسم الموصول معرفة ، المُعرف بأل معرفة ، المضاف معرفة ، المنادى معرفة .
إن المعارف سبعة في قولنا كَمُل أنا صالح من ذا الفتى ابني يا رجل
3 – اسم ( المبين ) مفيدٌ للمدح والثناء :
هذا الاسم يفيد المدح والثناء ، والعبد عبد والرب رب ، شأن العبد الافتقار، وشأن الرب المدح والثناء ، لكن لو أن غنياً تواضع ، وقال لمن يسأله عطاءً : أنا لا أملك شيئًا ، ليس هذا المقام مقام تواضع ، مقام أن تذكر له أنك يمكن تساعده ، فشأن الله المدح والثناء ، وشأن العبد الافتقار .
غزوة بدرٍ وحنين درسان بليغان :
في حياة الناس درسان بليغان ، الدرس الأول درس بدر ، والدرس الثاني درس حنين .
النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه سيد الخلق وحبيب الحق ، وهو قمة البشر وقد اختاره الله ، واختار له أصحابه ، قال :
(( إن الله اختارني واختار لي أصحابي )) .
[ الجامع الصغير بسند ضعيف عن أنس ]
أصحابه والنبي على رأسهم في بدر افتقروا إلى الله في بدر فقال تعالى :
? وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ? .
( سورة آل عمران الآية : 123 ) .
النبي نفسه ، وهو في أعلى درجات القرب والافتقار إلى الله ، لكن أصحابه في حنين قالوا :
(( لن نغلب من قلة )) .
[ أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم ، عن ابن عباس ]
فتخلى الله عنهم ، قال تعالى :
? وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ?
( سورة التوبة الآية : 25 ) .
لا تقل : أنا ، لي ، عندي :
درْسا بدر وحنين يحتاجهما المؤمن في كل يوم ، بل في كل ساعة ، فإذا قلت : أنا ، تخلى الله عنك ، وإذا قلت : الله ، تولاك ، قل : أنا ابن فلان ، يتخلّ الله عنك ، قل : أنا عندي علم يتخلّ الله عنك ، قل : أنا عندي تجربة غنية في هذا الموضوع ، قل : أنا أعلم من حولي يتخلّ الله عنك ، إياك أن تقول : أنا ، قالها إبليس :
? أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ?
( سورة الأعراف الآية : 12 )
فأهلكه الله ، وقالها قوم بلقيس :
? قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ?
( سورة النمل الآية : 33 )
وقالها قارون :
? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ?
( سورة القصص الآية : 78 )
فخسف به الأرض ، وقال فرعون :
? أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ? .
( سورة الزخرف الآية : 51 ) .
فدمره الله ، أنا ، ونحن ، ولي ، وعندي كلمات مهلكات ، فإذا قلت أنا تخلى الله عنك ، وإذا قلت الله تولاك الله ، ونحن جميعا بحاجة ماسة لهذين الدرسين في كل ساعة من حياتنا .
هناك طبيب جراح نسائي في بلد عربي متفوق ، له زميل طبيب من المستوى نفسه ، له زوجه في حملها إشكال ، فذهب إليه ، واتفق أن تكون الولادة عنده ، ثم سأله زميله : هل ترى أن نسأل طبيبا آخر؟ قال : أنا أعلم مَن في هذه المدينة بهذا الاختصاص ، بكل كِبْر ، القصة طويلة ، لكن مغزاها أن هذا الطبيب ارتكب خطأ فادحا جداً لا يرتكبه ممرِّض ، الأمر الذي وجب على القائمين على شؤون الصحة أن يسحبوا منه الشهادة لأول مرة في تاريخ البلد العربي بعد النهضة والاستقلال .
لا تقل : أنا ، لا تقل : ليس هناك من هو أعلم مني .
? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ?
( سورة يوسف )
إن شاب ناشئًا ألقى درساً فتحلق والتف الناس حوله ، وأحبوه ، ورجل آخر مِن أهلِ العلم آلمه هذا الإقبال على هذا الشاب ، فجاء إليه ، وأراد أن يصغّره ، فحضر درسه ، فلما انتهى الدرس ، سأل هذا الفتى : وقال له : يا هذا ، هذا الذي قلته ما سمعناه ، تصغيرا له ، فالشاب مؤدب جداً ، قال : يا سيدي ، وهل تعلمت العلم كله ، فإذا قال : نعم ، فقد خالف قوله تعالى :
? وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ?
( سورة الإسراء )
قال : لا ، قال : كم تعلمت منه ؟ قال : شطره ، قال : يا سيدي هذا الذي قلته من الشطر الذي لا تعرفه .
إياك أن تقول : أنا ، قل : بفضل الله ، الله مكني أن أنال هذه الشهادة ، الله مكني أن أتقن هذه الحرفة ، الله مكني أن ألقي هذه الكلمة ، الله مكني أن تنجح هذه العلمية .
أعرف طبيبا جراحاً عصبياً ، المريض على الطاولة ، يصلي أمامه ركعتين ، ويقول : يا رب ، ألهمني الصواب ، أنا مفتقر إليك .
عوِّد نفسك في كل عمل تقدم عليه أن تقول : اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي ، والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا المتين ، شأن العبد أن يفتقر، وشأن الرب أن تثني عليه ، وأن تمدحه ، كي نطمع بفضله ، وكي نقبل عليه ، وكي نلجأ إليه ، وكي نعتمد عليه .
لا تُظهِر نفسَك وتعتِّم على غيرك :
أيها الإخوة ، لكن بالمناسبة ، إذا مُدح المؤمن ربَا الإيمان في قلبه ، وهناك إنسان بطبيعته لا يُظهِر مَن حوله إطلاقاً ، تعتيم شديد على مَن حوله ، وتسليط للإضاءة شديد على شخصه ، هو يكبُر ومَن حوله يصغرون ، ليس هذا من شأن النبي عليه الصلاة والسلام .
(( لو كان نبيا بعدي لكان عمر )) .
[ أخرجه الترمذي عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ ]
سيدنا الصديق ما ساءني قط ، وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر .
سيدنا ابن الجراح أمين هذه الأمة ، كل صاحبي أعطاه النبي حقه ، هذه بطولة أن تُظهِر مَن حولك ، لا أن تعتم من حولك .
فذالك أيها الإخوة ، إذا مُدح المسلم رَبا الإيمان في قلبه ، والمؤمن الصادق إذا مُدح والله يزداد تواضعاً لله ، يزداد محبة له ، يقول : يا رب ، إني تبرأت مِن حولي وقوتي ، والتجأت إلى حولك وقوتك ، يا ذا القوة المتين ، يا رب ، هذا فضلك ، يا رب ، هذا توفيقك يا رب ، هذا من عندك ، يا رب ، هذا من تأييدك .
المؤمن الصالح إذا مُدح ربا الإيمان في قلبه ، وهناك أشخاص إذا مدحتهم ، يصدقون ، ويستعلون ، ويتغطرسون ، ويعانون من أمراض نفسية كانوا في غنىً عنها .
إذاً : أنت أيها الأخ المؤمن كن حكيما ، إذا كان مدحك يسوق الإنسان إلى الفجر فإياك أن تمدحه ، لذلك ورد أيضاً :
(( احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ )) .
[ أخرجه مسلم المقداد بن الأسود ]
ورد النهي عن المديح ، وورد الثناء على المديح ، هذا بحسب حال الممدوح ، فإذا كان مؤمناً ربا الإيمان في قلبه ، وإن كان غير مؤمن ازداد كبراً وغطرسة واستعلاء .
علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب :
أيها الإخوة ، قضية التولي والتخلي ، أخطر شيء في حياتنا ، قل : الله ، حقيقة المؤمن أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب ، وأن تعتمد عليها ، وأن تؤلهها ، وأن تنسى الله معها ، وهذا شأن العالم الغربي ، وسهل أيضاً ألا تأخذ بها جهلاً وتواكلاً وتقول : توكلنا على الله .
سيدنا عمر رأى أناساً يتكففون الناس في الحج ، سألهم : << من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال : كذبتم ، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ، ثم توكل على الله >> .
يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا شيء مهم جداً أيها الإخوة .
إذاً : المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها ، يعتمد على الله ، وقبل أن يسافر يراجع مركبته مراجعة دقيقة ، ثم من أعماق أعماقه يقول : يا رب ، أنت الحافظ ، أنت الموفق ، أنت المسلم ، أما ألاّ يأخذ بالأسباب ، ولا يراجع المركبة ، ولا يتفقد مكابحها ، ولا أجهزتها ، ولا وسائلها ، ويقع الحادث ، ثم يقول : هذه مشيئة الله ، فهذا افتراء على الله ، هذه نتائج التقصير ، ولو فهِم المسلمون أن الأخذ بالأسباب من الدين ، بل هو من صلب الدين لما كانوا فيما هم فيه الآن من ضعف ، لكن العالم الغربي وقع في متاهة أخرى ، أخذ بالأسباب واعتمد عليها ، ونسى الله ، وتغطرس ، فأدبه الله عز وجل .
الإنسان يؤدَّب مرتين ، مرة إذا أخذ بالأسباب واعتمد عليها ، وأشرك مع الله ، وينسي ربه ، ومرة إن لم يأخذ بها ، ففي الحالتين يؤدب ، لذلك البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست شيء .
الكون مسخَّر للإنسان تعريفًا وتكريما :
أيها الإخوة ، الكون كما تعلمون مسخر تسخير تعريف وتكريم ، تماماً لو قدم لك أحدهم هاتفا متطورا جداً ، وفيه خدمات كبيرة جداً ، قدمه لك أحدهم هدية ، وهذا الجهاز من اختراعه ، أنت بماذا تشعر ؟ تشعر بإكبار لهذا الإنجاز العلمي ، وتشعر بامتنان ، لأنه أعطاك إياه هدية ، هذا مثل للتبسيط .
هذا الكون الذي سخره الله للإنسان ، سخره له تسخير تعريف وتكريم ، من أين جئنا بهذا المعنى ؟ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ :
(( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ )) .
[ رواه أبو داود وفي سنده ضعف ]
هلال خير أنتفع به ، وهلال رشد يرشدني إلى ربي ، هذا منهج .
الطعام أمامك ، طعام خير ورشد ، تنتفع به ، وتتعرف إلى خالقه ، نظرت إلى السماء ، نظرت إلى النجوم ، إلى البحار ، إلى الجبال ، نظرت إلى الأسماك ، إلى الأطيار كل شيء سخره الله لنا تسخير تعريف وتكريم ، فردُّ فعل التعريف أن تؤمن ، وردُّ فعل التكريم أن تشكر ، وحينما تؤمن ، وحينما تشكر فقد حققت الهدف من وجودك ، وإنْ آمنت وشكرت توقفت المعالجة ، الدليل قال تعالى :
? مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ?
( سورة النساء )
في اللحظة التي تؤمن بها بالله ، وتشكره على نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ونعمة الهدى والرشاد ، فقد حققت سر وجودك وغاية وجودك ، واعلم علم اليقين أنه ربما وفي العمل الأغلب وإن شاء الله تتوقف كل المعالجات ، لذلك ورد في بعض الأحاديث عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ )) .
[ أخرجه الترمذي والحاكم في المستدرك ]
إذا دعوت وأنبت ، واستقمت ، وتبت يتوقف كل شيء في حقك ، وهذه بشارة كبيرة جداً .
التوحيد لا يغفي من المسؤولية :
أيها الإخوة ، ولكن كما تحدثت عن التوحيد لا بد من التنويه أن الله عز وجل حينما سمح لموضوع حديث الإفك أن يكون ، قال في القرآن الكريم :
? إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ ?
( سورة النور الآية : 11 )
لأن كل شيء وقع أراده الله ، ولأن كل شيء أراده الله وقع ، ولأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، ولأن حكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، فخير ، لكن لئلا يتوهم الإنسان أن القضاء والقدر يعفيه من المسؤولية ، قال تعالى :
? وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?
( سورة النور )
كي أترجم هذه الفكرة إلى حياتنا : طبيب اشتغل مع ممرضة في المستشفى بحديث غزلي ، جاء إنسان في الإسعاف ، قال لهم : انتظروا ، حتى مات ، فالطبيب مسؤول ، ولا يقل : سبحان الله ! مات بأجله ، لا ، أنت مسؤول ، الدليل : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ )) .
[ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم ]
التوحيد لا يلغي المسؤولية .
4 – الاشتقاق اللغوي لاسم ( المبين ) :
أيها الإخوة ، المبين اسم فاعل من المشتقات نحن لغتنا لغة اشتقاق ، وهي من أرقى اللغات ( المبين ) اسم فاعل ، نحن في لغتنا اللغة أُسَر ، هناك أسرة جدها بانَ ، فيها اسم فاعل بائن ، فيها فعل رباعي ، أبان ، فيها اسم فاعل رباعي مبين ، وهناك بينونة ، عندنا فعل ماضٍ ، وفعل مضارع ، وفعل أمر ، واسم فاعل واسم مفعول ، وصفة مشبهة باسم الفاعل ، واسم تفضيل ، اسم مكان ، واسم زمان ، واسم آلة ، لغتنا من أرقى اللغات ، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى اختارها لكلامه :
? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ?
( سورة الشعراء )
وفي اللغة لقطات مذهلة ، اللغة العربية تتسع اتساعاً مذهلاً ، فهناك كلمة نظر ، وحدّج ، حدج نظر مع المحبة ، وفي الحديث الشريف :
(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم )) .
هناك نظر شزراً ، مع الاحتقار ، وهناك شَخَص مع الخوف ، وحَدج ، وهناك بَحْلق مع التحديق ، وحملق ، ظهر حملاقُ العين ، واستشرف مع التمطي ، واستشف مع اللمس ، ولَمَح ، نظر ، وأعرض ، هناك ولّى ، وظهر ، واختفى .
العربية من أرقى اللغات الإنسانية ، لكن اللغة تضعف بضعف أهلها ، وتقوى بقوتهم ، وفي العربية مثلا : كتب ، ومكتب ، وكتابة ، وكتاب ، من أسرة واحدة ، وفي اللغة الإنجليزية Write , book , table ، كل كلمة من اشتقاق ، نحن كتب ، يكتب ، كاتب ، مكتوب ، مكتب ، كتاب ، هل نظرت إلى النظام ؟
فلذلك ( المبين ) اسم فاعل من أبان ، أظهر ، أما بائن مِن بان ، وهو فعل لازم ، اسم فاعله بائن ، أما أبان : اسم فاعله مبين .
بانت المرأة ؛ انفصلت عن زوجها ، وفي الطلاق الثالث تكون البينونة الكبرى .
5 – معنى اسم ( المبين ) :
شيء الآخر ، ( المبين ) الواضح :
? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?
( سورة الأعراف )
السحرة جاءوا بأنابيب ، وطلوها على شكل ثعبان ، ووضعوا فيها زئبقًا ، ثم وضعوها على مكان ساخن ، تمدد الزئبق ، تحركت هذه الأنابيب المطاطية
? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?
? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? .
( سورة الشعراء )
شيء رائع جداً :
? فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?
أي : واضح .
? فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ?
( سورة الدخان )
حينما يرى الإنسان أنه خسر الأبد ، وخسر الآخرة قال تعالى :
? ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ?
( سورة الزمر )
الخسارة الحقيقية أن تخسر الله ، أن تخسر الجنة ، أن تخسر الأبد .
لذلك أبان ؛ أظهر ، والبيان ؛ الفصاحة .
? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ?
( سورة الرحمن )
البيان أرقى أداة اتصال بشري :
البيان أرقى أداة اتصال بشري ، فلو فرضنا دولة فيها نظام ، لكن ما فيها لغة ، وأراد حاكم هذه البلدة أن يمنع التجول ، ماذا يفعل ؟ يحتاج على شرطي لكل مواطن يدفعه إلى البيت ، لكنه يصدر بلاغا في أربع كلمات لا تجد بعد ذلك إنسانا في الطريق .
أرقى أداة اتصال بين البشر اللغة ، قال تعالى :
? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ? .
أيضا البيان شفهي للتواصل المباشر ، وكتابي للتواصل الغير مباشر .
? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ?
البيان الكتابي ينتقل من جيل إلى جيل ، ومن عصر إلى عصر، والبيان الكتابي مع الترجمة ينتقل من أمة إلى أمة ، ومن ثقافة إلى ثقافة ، والإنسان خُص بالبيان :
? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ?
(( وإن من البيان لسحرا )) .
[ أخرج مالك أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر ]
(( إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً )) .
[ أخرجه البخاري عن أُبي بن كعب ]
وسوف نتابع هذا الموضوع في لقاء آخر إن شاء الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوة الكرام ، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى ، وهو اسم ( المبين ) .
1 – اسم (المبين ) وصف للذات والأفعال :
الحقيقة أن هذا الاسم فيه وصف للذات ، فالله سبحانه وتعالى بائن ؛ أي ظاهر ، من بان واسم الفاعل من هذا الفعل بائن .
أما إذا بيّن الله للناس آياته فهو ( المبين ) ، وهذا وصف للأفعال ، فاسم ( المبين ) بين أن يكون وصفاً للذات ، وبين أن يكون وصفاً للأفعال .
2 – الله يبيِّن الآيات :
? كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ ?
( سورة البقرة الآية : 242 )
جاءت آيات كثيرة :
? لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ? .
( سورة البقرة )
? لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ?
( سورة البقرة ) .
? لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? .
( سورة البقرة ) .
? لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ ? .
( سورة البقرة ) .
? لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? .
( سورة الحج ) .
إذاً : الله جل جلاله يبيّن لخلقه آياته ، لعل هؤلاء الناس يعرفون الحقيقة ، لعلهم يتفكرون ، لعلهم يعقلون ، لعلهم يهتدون ، لعلهم يتقون ، لعلهم يشكرون .
ما هي آياتُ الله عزوجل ؟
فما هي آيات الله عز وجل ؟ قال العلماء : هناك آيات كونية ، وهي خَلْق الله عز وجل ، وهناك آيات تكوينية هي أفعاله ، وهناك آيات قرآنية أي كلامه ، فمن أجل أن نعرفه ، ومعرفة الله أصل الدين ينبغي أن نتفكر في آياته الكونية ، وأن ننظر في آياته التكوينية ، وأن نتدبر آياته القرآنية .
لو وقفنا وقفة متأنية عند آياته الكونية ، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا أن ننظر في السماوات ولأرض ، وكما تعلمون كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، لأن الله عز وجل جعل التفكر من أعلى درجات العبادة ، فقال تعالى :
? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?
( سورة آل عمران )
نماذج من آيات الله الكونية :
سرعة الضوء :
من بعض آياته الكونية : أن بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كم ، كم يقطع في الدقيقة ؟ ضرب 60 ، كم يقطع في الساعة ؟ ضرب 60 ، كم يقطع في اليوم ؟ ضرب 24 ، كم يقطع في السنة ؟ ضرب 365 يوما ، كم يقطع في أربع سنوات ؟
إن طالبا من طلابنا في المرحلة الإعدادية يحسب كم يبعد هذا النجم الذي هو أقرب نجم ملتهب إلينا عن أرضنا ، فإذا كان لهذا النجم طريق سالك ، ومعنا مركبة أرضية ، وسرنا بسرعة مئة في الساعة ، لو قسمنا المسافة على مئة يكون الجواب كم ساعة تستغرق الرحلة ، لو قسمنا الناتج على 24 نجد كم من يوم تستغرق الرحلة ؟ لو قسمنا الناتج على 365 كم من عام ، من أجل أن نصل إلى أقرب نجم ملتهب إلى الأرض بمركبة أرضية نحتاج إلى خمسين مليون عام ، متى نصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا 4000 سنة ضوئية ؟ بل متى نصل إلى مجرة المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ، ومتى نصل إلى بعض المجرات التي اكتشفت حديثاً ، وتبعد عنا 20 مليار سنة ضوئية ، إذا فتحت كتاب الله ، وقرأت قوله تعالى :
? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?
( سورة الواقعة )
لذلك أيها الإخوة :
? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ?
( سورة فاطر الآية : 28 )
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
ولكن في الآية الكريمة ملمح دقيق :
? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ?
إنها كلمة مواقع ، الموقع يعني أن صاحب الموقع قد لا يكون في الموقع ، لأن هذا النجم ، أو هذه المجرة ، أو هذا النجم الذي يبعد عنا عشرين مليار سنة كان في هذا المكان ، وأرسل ضوءه إلى الأرض ، وبقي الضوء يقطع في الفضاء الخارجي مسافة يستغرق قطعها 20 مليار سنة ، النجم أين هو الآن ؟ ليس في هذا المكان ، سرعته تقترب من سرعة الضوء .
لذلك إذا تأمل عالم فلك في كلمة : ? بِمَوَاقِعِ ? ، لخر ساجداً لله .
? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ?
لو أن الآية : لا أقسم بالمسافات بين النجوم ، فهذا ليس قرآناً :
? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?
برج العقرب :
إخوتنا الكرام ، الأرض تدور حول الشمس ، بين الأرض والشمس 156 مليون كم ، يقطعها الضوء في 8 دقائق ، الشمس تكبر الأرض بمليون و300 ألف مرة ، أي أن جوف الشمس يتسع لمليون و300 ألف أرض ، وبينهما 156 مليون كم ، وحينما قال الله عز وجل :
? وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ? .
( سورة البروج ) .
أحد أبراج السماء اسمه برج العقرب ، برج العقرب فيه نجم صغير متألق اسمه قلب العقرب ، هذا النجم الصغير المتألق يتسع ـ دققوا الآن ـ يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما ، أهذا الإله العظيم يُعصى ؟! ألا يخطب وده ؟ ألا ترجى جنته ؟ ألا تخشى ناره ؟
? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?
? قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?
( سورة يونس الآية : 101 )
البعوضة :
لو انتقلنا نقلة فجائية من المجرات ، ومن السماوات إلى أحقر مخلوق عند الإنسان إنه البعوضة ، البعوضة بعد أن وضعت تحت المجهر تبين أن في رأسها مئة عين ، وفي فمها 48 سناً ، وفي صدرها 3 قلوب ، قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، وتملك البعوضة جهازا استقباليا حراريا لا تملكه الطائرات ، إنها ترى الأشياء لا بأشكالها ، ولا بأحجامها ، ولا بألوانها ، ولكن ترى الأشياء بحرارتها فقط ، وحساسية هذا الجهاز الحراري واحد على ألف من الدرجة المئوية .
وتملك جهاز تحليل دم ، فما كل دم يناسبها ، وتملك جهازاً آخر ، جهاز تمييع للدم ، لأن لزوجة دم الإنسان لا تسري في خرطومها ، وتملك جهاز تخدير .
أما خرطومها ففيه ستة سكينان ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع ، وسكينان يلتئمان على شكل أنبوب لامتصاص الدم ، فإذا قال الله عز وجل في قرآنه :
? إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ?
( سورة البقرة الآية : 26 )
هذه الآية تندرج تحت الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .
في أرجل البعوضة مخالب ، إن أرادت أن تقف على سطح خشن ، وفي أرجل البعوضة محاجم ، إن أردت أن تقف على سطح أملس .
? قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?
( سورة يونس الآية : 101 )
? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?
أيها الإخوة الكرام ، الآيات التي تتحدث عن العلم ، وعن التفكر ، وعن العقل تقترب من ألف آية في القرآن الكريم ، والآيات التي تتحدث عن الكون تقترب أيضاً من ألف آية ، لذلك سبيل معرفة الله التفكر في آياته ، فالله عز وجل حينما قال :
? فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ?
( سورة الجاثية )
الله عز وجل مبين ، بيّن هذه الآية ، والله عز وجل ظاهر ، بل إن كل شيء في الكون ينطق بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، هذا عن آياته الكونية .
من آيات الله التكوينية :
فماذا عن آياته التكوينية ؟ نحن مأمورون أن نتفكر بآياته الكونية ، أما آياته التكوينية فهي أفعاله .
تصوروا فرعون ، وما أدراكم من فرعون ، بجبروته ، بقوته ، باستعلائه ، باستكباره ، بقسوته ، بظلمه ، بطغيانه ، هذا فرعون رواء سيدنا موسى بقوته ، سيدنا موسى معه شرذمة قليلون من بني إسرائيل ، وصلوا إلى ساحل البحر الأحر .
? قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?
( سورة الشعراء )
احتمال النجاة صفر ، فرعون بأسلحته ، بحقده ، بطغيانه ، باستعلائه ، باستكباره ، وراء نبي كريم مع شرذمة من بني إسرائيل
? قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?
( سورة الشعراء )
والقصة معروفة لديكم ، حيث إن هذا النبي الكريم ضرب البحر بعصاه فأصبح طريقاً يبساً ، سار فيه موسى ومن معه ، تبعهم فرعون ، وكان موسى قد خرج من الطرف الآخر ، وفرعون في منتصف البحر ، فغرق ، وكان إغراق فرعون آية من آيات الله عز وجل .
وهذه القصة لنا من أجل ألا نيأس ، من أجل أن نثق بالله عز وجل ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين .
? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?
( سورة آل عمران )
هذه آية من آياته التكوينية ، قال تعالى :
? قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ?
( سورة الأنعام )
هؤلاء الذين عارضوا النبي الكريم ، أين هم الآن ؟ في مزبلة التاريخ ، أبو جهل وأبو لهب ، هؤلاء الذين وقفوا معه أين هم ؟ في أعلى عليين .
? قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ?
وفي آية أخرى :
? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا ?
( سورة النمل الآية : 69 )
أحياناً يأتي التدمير سريعاً ، وقد يأتي متأخراً لحكمة أرادها الله عز وجل ، فآياته الكونية أُمرنا أن نتفكر فيها ، وآياته التكوينية أُمرنا أن ننظر فيها .
الآيات القرآنية :
بقيت آياته القرآنية أُمرنا أن نتدبر آياته القرآنية ، والقرآن الكريم يُقرأ ، والأولى أن يُقرأ قراءة صحيحة ، وفق قواعد اللغة ، لأن هذا القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ، وإن أمكن ينبغي أن يُقرأ قراءة وفق أحكام التجويد ، هذا مندرج تحت قوله تعالى :
? يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ?
( سورة البقرة الآية : 121 )
ثم ينبغي أن نفهمه ، ثم ينبغي أن نتدبره ، ما الفرق بين أن نفهمه وأن نتدبره ؟ أن نفهمه أي نفهم المعنى الذي أراده الله عز وجل وفق علم الأصول ، أما التدبر فتقول : أين أنا من هذه الآية ؟ هل أنا مطبق لها ؟ دائماً وأبداً التدبر يعني أن تسأل نفسك : أين أنا من هذه الآية ؟ فلذلك القرآن الكريم يقول :
? إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ?
( سورة آل عمران )
هل أنا متوكل ؟ فالمؤمن الصادق حيث ما قرأ آية في كتاب الله يسأل نفسه : هل أنا مطبق لها ؟ هذا هو التدبر ، وأعلى شيء في تلاوة القرآن الكريم التطبيق ، إذاً :
? يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ?
بدءاً من تلاوته وفق أحكام اللغة العربية الصحيحة ، ثم قراءته وفق علم التجويد ، ثم فهمه ، ثم تدبره ، ثم تطبيقه .
(( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه )) .
[ أخرجه الترمذي عن صهيب ] .
إذاً : الآيات الكونية أتفكر فيها ، والتفكر أمرٌ في القرآن الكريم ، بل إن هذا الأمر يعد من أوثق الأوامر ، لماذا ؟ جاء بفعل مضارع ، يتفكرون ، التفكر مستمر :
? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? .
والآيات التي تزيد على ألف آية في كتاب الله ، وتتحدث عن الكون هي في الحقيقة منهج لنا ، منهج للتفكر ، فأية آية كونية يجب أن تقف منها الموقف الذي أراده الله ، مثلاً :
ماذا تقتضي قراءة الآيات الكونية والتكوينية والقرآنية ؟
إذا قرأت آية فيها أمر ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تأتمر ، إن قرأت آية فيها نهي ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تنتهي ، إن قرأت آية فيها وصف لأهل الجنة ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تسعى لدخول الجنة بالعمل الصالح ، والتوبة ، والاستقامة ، وإن قرأت آية فيها وصف لأهل النار ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تبتعد عن النار .
(( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ )) .
[ أخرجه البخاري ومسلم ، عن عديّ بن حاتم رضي اللّه عنه ]
فإذا قرأت آية تتحدث عن الأقوام السابقة ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تعتبر .
الآن الشاهد : فإذا قرأت آية كونية ماذا تقتضي منك هذه الآية ؟ أن تتفكر في خلق السماوات والأرض ، وربما كان التفكر عبادة يقوم بها الإنسان ، لأن التفكر طريق إلى معرفة الله ، وأصل الدين معرفته ، وحينما تعرف الآمر ، ثم تعرف الأمر تتفانى في طاعة الآمر ، أما حينما تعرف الأمر ، ولا تعرف الآمر تتفنن في التفلت من الأمر ، وهذه مشكلة المسلمين الأولى ، عرفوا الأمر ولم يعرفوا الآمر ، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله ، هان أمر الله عليهم لأنهم ما عرفوا من الآمر .
لذلك المرحلة المكية التي أمضى فيها النبي عليه الصلاة والسلام سنوات طويلة في تعريف أصحابه بالله ، ويغلب على الآيات المكية أنها كونية ، ويغلب على الآيات المدنية أنها تشريعية ، وفي الدعوة إلى الله لا بد أن تتمايز المرحلة المكية التي فيها تعريف لله عز وجل عن المرحلة المدينة التي فيها تعريف بأمره .
والمقولة التي أرددها كثيراً : أنت بالكون تعرفه ، وبالقرآن الكريم تعبده ، بالكون تعرفه ، وبالمنهج القويم الذي جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة تعبده ، بالتفكر تعرفه ، وبالطاعة تعبده ، والإنسان علة وجوده أن يعبد الله ، والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بحبحة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سادة أبدية .
أيها الإخوة ، الله عز وجل من خلال التفكر في خلق السماوات والأرض نرى كمالاً ، ونرى عظمة ، ونرى رحمة ، ونرى حكمة ، ونرى قوة ، أسماء الله الحسنى نستشفها من التفكر في خلق السماوات والأرض ، قد نصل في نهاية المطاف إلى أن الله موجود ، وكامل وواحد ، وأـسمائه حسنى ، وصفاته فضلى .
الآن كمال الخلق يدل على كمال التصرف ، إذاً من مقتضيات كماله الذي وصلنا إلى هذه الحقيقة من خلال التفكر في خلقه ، أنه يبين لعباده ، يبين لهم الآيات من أجل أن يتفكروا ، يبين لهم الآيات من أجل أن يعقلوا ، يبين لهم الآيات من أجل أن يهتدوا ، من أجل أن يطيعوا ، من أجل أن يتقوا ، من أجل أن يشكروا .
? مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ?
( سورة النساء الآية : 147 )
حينما تؤمن ، وحينما تشكر تحقق الهدف من وجودك ، ذلك لأن الكون مسخر لك أيها الإنسان تسخير تعريف وتكريم ، هذا يستنبط من قول النبي الكريم حينما رأى هلالاً قال :
(( هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ )) .
[ رواه أبو داود عن قتادة ]
ننتفع به ، يرشدنا إلى الله عز وجل ، وأي شيء من دون استثناء خلقه الله عز وجل له وظيفتان كبيرتان ، وظيفة إرشادية ، ووظيفة نفعية ، العالم الغربي حقق الوظيفة الثانية في أعلى مستوى ، انتفع من خيرات الأرض ، وخيرات السماء ، وما تحت الأرض ، بينما المسلم ينبغي أن يضيف إلى انتفاعه من خيرات ربه جل جلاله يضيف إلى استمتاعه بهذه الخيرات أنه يعرف الله من خلالها .
لذلك أي شيء خلقه الله عز وجل له وظيفتان ، وظيفة نفعية ، ووظيفة إرشادية .
إذاً : أن يبين الله لنا آياته هذا من لوازم كماله ، من هنا جاءت الرسالات السماوية والأنبياء ، والمرسلون ، وكل وسائل هداية الخلق هي تعبير عن محبة الله لنا ، وعن أنه خلقنا ليسعدنا .
3 – ماذا تستفيد من اسم ( المبين ) ؟ البيان يطرد الشيطان :
الآن أنت كمؤمن ماذا ينبغي أن تفعل حيال هذا الاسم ؟ ينبغي أن تبين النبي عليه الصلاة والسلام كان في معتكفه ، وجاءت السيدة صفية رضي الله عنها تتفقده ، وتقدم له بعض الحاجات ، جلست معه قليلاً ، ثم أرادت أن تنطلق إلى بيتها ، رافقها النبي عليه الصلاة والسلام ، لما رافقها النبي ، وهما في الطريق رأيا صحابيين ، فقال عليه الصلاة والسلام : على رسليكما هذه زوجتي صفية ، بين ، وضح .
لذلك قالوا : البيان يطرد الشيطان ، والمؤمن مِن تخلّقه بهذا الاسم العظيم يبيّن ، هناك حساب بينك وبين شريكك ، أنت أمين إلى أعلى درجة ، وجدت أن المدفوعات تساوي المصروفات ، قلت : الحساب مغلق ، انتهى ، لا يكفي ، لا بد من أن تقدم الحساب ، وتبين .
كلمة : " هذه زوجتي صفية " يُحمل عليها آلاف الحالات ، بيّن وضح .
أنت مسافر ، كلفت أخا زوجتك أن يتفقدها في غيبتك ، بلِّغ الجيران ، أنا مسافر ، وسيأتي أخو زوجتي يتفقد شؤون أخته ، لئلا يظن الناس أن هذا الإنسان غريب دخل إلى بيتك في غيبتك ، لذلك لا تضع نفسك موع التهمة ، ثم تلوم الناس إذا اتهموك .
البطولة أن كل عمل يقتضي تفسيرين يجب أن تبتعد عنه ، وإن كنت مضطراً فبيّن ماذا تريد من هذا العمل ، هذه من صفات المؤمن ، يبيّن ، هذه زوجتي صفية ، وهذا هو الحساب ، وهذا الذي جاء إلينا فلان ، فكلما بينت أزلت الشكوك ، وأبعدت نفسك عن التهم ، والمؤمن حريص على سمعته ، وعلى كلام الناس في غيبته ، ورحم الله عبداً جب المغيبة عن نفسه .
والحمد لله رب العالمين